RSS

علمتني حياتي – عبد الرحمن اللحام

24 أكتوبر

بسم الله الرحمن الرحيم

عبد الرحمن اللحام.

خريج هندسة معلوماتية من جامعة دمشق.

يجري حالياً دراسات عليا خارج القطر في الحوسبة الكمومية.

مولع بالفلسفة والفيزياء ولديه اهتمام بالأدب والموسيقا، ويكتب قليلاً من الشعر (أو ما يعتقده شعراً).

يحب الكلام بطبعه، وقد تعلم مؤخراً أن يستمع للآخرين.

مدونتا عبد الرحمن: مدونة عبد الرحمنعوالم علمية

الطائرة

بعد أن تجاوزت آخر نقطة تفتيشٍ حملت حقيبتي على كتفي وتقدمت في المسرى المؤدي إلى الطائرة. كانت هذه أول مرةٍ أركب فيها طائرةً وأنا بكامل وعيي. فآخر مرةٍ ركبتها كنت طفلاً صغيراً. أذكر حينها أنني كنت أعبث بأزرار التكييف. هذه هي اللقطة الوحيدة الباقية في ذاكرتي.

بالرغم من أن عمري الآن – وأنا أتوجه إلى الطائرة – قد جاوز الخامسة والعشرين، إلا أنني – فكرياً- لازلت طفلاً. فالطفولة ليست مجرد مرحلةٍ عمريةٍ محدودةٍ وتنقضي. بل هي حالةٌ نفسيةٌ وفكريةٌ. وكثيرٌ من الناس يفقد طفولته النفسية، يفقد صفاءه وطهارة قلبه ومحبته للعالم. يفقد القدرة على رسم البسمة في وجوه من ينظر إليه. وبالمقابل فإن الكثير منهم يحافظ على طفولته الفكرية. يظن أنه يدرك الحقيقة. يعتقد ألعابه واقعاً وخربشاته فناً وسيفه البلاستيكي بتاراً. يعتقد أنه يملك الصورة الدقيقة لما يجري على مسرح هذه الحياة. يعتقد نفسه مُخرِجَ المشهد في حين أنه مجرد ممثلٍ بائسٍ.

كنت –بدوري- أعتقد أن هذه الطائرة ستنقلني إلى بلدٍ آخرٍ لأتابع دراستي فيه. أقضي عدة سنواتٍ ثم أعود وقد حملت شهادةً وعلماً أنفع به بلدي. هذا كان اعتقادي، ولكني اعترف بأنني كنت طفلاً. فهذه الطائرة كانت ولادةً لإنسانٍ آخر. كانت الطائرة التي لم أكن أود أن أركبها على الإطلاق. كانت البوابة السحرية التي تسلب عقول من يدخلها فتغيرهم. كانت هذه الطائرة تمثل الصورة السوداء لمن غادروا ولم يعودوا. أو لمن عادوا بعد أن خسروا إيمانهم الحق. كانت تمثل إسلاما أوروبياً أو “الموديرن” كما يذاع. كانت تمثل الانهزام الثقافي، والتغريب،  وجميع ما يمكن أن تكره من تلك البلاد. وأنا لم أكن أريد هذه النتيجة. لم أكن أريد أن أتغير. لم أكن أريد ترك الحقيقة. لم أكن أريد الخروج من طفولتي الفكرية. ولكن الله أراد أمراً آخر. ولا اعتقد الآن أنه توجد طائرةٌ قادرةٌ على إعادتي إلى ماكنت عليه. فهذه التغيرات تشبه تغيرات الديناميكا الحرارية. هي تغيراتٌ غير عكوسةٍ.

ذلك ما حدث معي بعين الطفل ذي الخامسة والعشرين. أما الآن وقد شارفت على السابعة والعشرين، فتلك الطائرة كانت رحلة الحقيقة. وقد أدركت مؤخراً جداً -منذ حوالي الأسبوع تقريباً- وجهة هذه الرحلة. فنهاية هذه الرحلة – رحلة الحقيقة – هي البداية. هذه الرحلة ستعيدني إلى معظم المعاني الجوهرية التي كنت أؤمن بها قبل سفري، ولكنها ستصبح ملكي الآن، ملكي وحدي.

والواقع أن خبرة الحياة لا تعني أكثر من ذلك، فهي لن تضيف معنىً جديداً، ولكنها ستضيف الألوان إلى المعاني السابقة. ستنقلك من معاني كنت تعرفها لكنها كانت باهتةً لا روح فيها إلى معانٍ حيةٍ تعيشها في حياتك. ستحول الحب من كلمةٍ في قصيدةٍ إلى شعورٍ في قلبك تجاه الله تعالى والناس. ستحول الصبر من صفةٍ تسمعها من الدعاة والوعّاظ إلى خُلُقٍ تعامل به من حولك. ستحولك من مشروع إنسانٍ إلى إنسان. وتلك هي الغاية الحقيقية للوجود وسر آية (إلا ليعبدون).

وبغض النظر عن الواقع الذي نعيشه في مجتمعنا، فإنني اعتقد بأن الطريقة التي يعاملنا الله بها والنصوص التي في كتابه تدفعنا إلى أن نمضي في هذه الرحلة. تدفعنا إلى أن نملك إيماننا وأفكارنا بأنفسنا، تدفعنا إلى النضج الفكري والتخلي عن التقليد الأعمى للتيار السائد. وبالرغم من أن التلقين قد يكون مرحلةً ضروريةً، خصوصاً للأطفال، إلا انّ انسحابه على المستويات الأخرى أمرٌ مستهجنٌ تماماً. وينتج أفراداً هم سَدَنَةٌ للماضي لا روادٌ للمستقبل. والخروج عن التيار السائد لا يعني بالضرورة التخلي عن التيار بالكلية. ولكنه يعني تفكيراً نقدياً وتخلياً عن التبعية العمياء.

ولن أتقيد في مقالاتي هذه بترتيبٍ زمنيٍ للدروس التي تعلمتها من الحياة، لأن الحياة نفسها لا تعطيك دروسها بالترتيب. وأعمق الدروس عادةً تكون في البداية. ثم نفهم مغزاها لاحقاً عندما يصل نضجنا الفكري إلى مستوى يؤهلنا فهم عمق التجربة الإنسانية وغايتها. فاليتم مثلاً من أعظم الدروس التي يمكن أن يمر بها إنسان. وهذا الدرس سيبقى في ذاكرة حامله حتى يخرج من طفولته التي ابتدأت منقوصةً. ثم يفهم هذا الدرس لاحقاً بعد أن يكون قد تعلم الكثير قبله.

 
6 تعليقات

Posted by في أكتوبر 24, 2011 بوصة علمتني حياتي

 

6 responses to “علمتني حياتي – عبد الرحمن اللحام

  1. shadispire

    أكتوبر 25, 2011 at 4:04 ص

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    مولانا عبد الرحمن – و ما أدراكم ما عبد الرحمن
    أود أن أعترف لكم أني من محبيكم في الله على كثرتهم و إن قللت. و لقاؤك كان إضافة أضافت لوناً جميلاً لحياتي و الله يشهد. و ما حياتنا في النتيجة إلى حصيلة ما تحويه من ألوان، فمنها الباهت و منها الساطع.

    لمن لا يعرف عبد الرحمن – فهو صديقي، فهل عرفتموه؟ لمّا بعد؟ حسن.

    عبد الرحمن عقلية فذة و فكر جميل و أسلوب رائع. تجذبك كتاباته و تمتعك آراؤه، كان بالنسبة لي و من دون أي مغالاة كالرافعي، فقبل الرافعي لم أكن أتلذذ بالأدب، و قبل أن أقرأ لعبد الرحمن لم أكن أتلذذ بالحوار و لا بميكانيك الكم :). و الله يشهد على أني لا أغالي.

    و على كثرة من تعرفت عليهم عبر هذا الأثير كان عبد الرحمن أكثر من حمدت الله على أن جمعني به في هذه الدنيا، و أسأل الله العلي القدير أن يجمعنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    جميلة تلك البوابة التي دخلت منها لتخرج منها شخصاً آخر. و لا شك أن في حياة كل منا بوابة أو بوابات كهذه، قد يصعب علينا أحياناً تذكرها. كل ما قد نذكره أننا تغيرنا في مرحلة ما. و أنا – كما كلنا – تغيرت عبر هذه السنين التي مرت علي، ولكني لا زلت أحب ذلك الطفل في داخلي. أرعاه و أقدم له كل ما يحتاجه ليبقى كما هو دون أن تغيره السنون و الأيام. و لا أخفيك أني أحبه ألا يكبر. لأني لا أريد أن أخسر تلك البراءة و ذاك الأنس. فمن يفقد ذاك الطفل في داخله يفقد الكثير. أن نكبر أكثر و نعقل أكثر أمر لا مفر منه، و لكن أن نبقى أطفالاً في داخلنا أمر قد لا يتيسر للجميع، على أنه بيدنا و خاضع لقرراتنا.

    و ما أجمل قولك عن تحول الإنسان من مشروع إنسان إلى إنسان. فقمة ما يمكن أن نحلم به هو أن تنضج الفكرة التي نعتقد بها. و لأن النضج هوالمرحلة التي تسبق جني الثمار. فأنا على يقين بأن المجتمع قبلك يجني فوائد هذه النضج. و لست أول و لا آخر من تعلم منك الكثير.

    أتمنى من كل ذراتي 🙂 أن يحبوك الله كل ما تتمناه. و عندما يمن الله على عبده فهو يمن عليه بأكثر مما يتمناه. لذلك لن أدعو الله بأن تحصل على تتمناه أنت، بل أدع الله بأن تحصل على ما يحبه و يرتضيه لك. بالتالي ستحصل على أكثر مما تتمناه – حسب الفرض :).

     
  2. عبد الرحمن

    أكتوبر 27, 2011 at 5:10 م

    مولانا شادي!
    وعليكم أطيب السلام ورحمة الله وبركاته

    يحار المرء حقيقةً في كتابة رد على مثل هذه التعليقات، وربما أفضل ما يمكن أن يقال هنا: “مولانا!… أتعبت من بعدك!”.
    بدايةً أشكرك على هذه الكلمات الطيبة وعلى هذا “الكم” 🙂 الكبير من حسن الظن. والحقيقة أنني أنا الذي أحمد الله تعالى على معرفتي بك. واعتقد أن هذه المعرفة هي أفضل الثمار التي جنيتها من تلك المدونة، والحمد لله.

    وأنتم – مولانا- لستم بحاجة لشهادة العبد الفقير، ومدونتكم خير مرآة لهذا الفكر الرائع والتحليل الفلسفي الجميل. ولطالما قرأت من مدونتكم على مسامع أصدقائي. ولست أقول ذلك مجاملةً والله يشهد.

    اسأل الله تعالى أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
    دمتم بخير.

     
  3. yours brother

    نوفمبر 7, 2011 at 9:30 م

    مولانا الكبير عبدالرحمن اللحام
    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    ان مرحلة الطفولة التي تتكلم انك تجاوزتهاعندما ركبت طائرتك, علم انك الان انتقلت الى مرحلة المراهقة الفكرية و في هذه المرحلة يحاول صاحبها اثبات ذاته و خروج عن مرحلة الطفولة بتحدي الناضجين و الكبار (فكريا).
    انصحك بالتروي و الهدوء و مراجعة النفس و بحث عن المرشد و المربي الذي يوجهك في هذه المرحلة الفكرية الخطرة, و انصحك بقراءة كتاب رجال الفكر و الدعوة لابو الحسن الندوي لاني اعتقد انه يوجد الجواب الشافي لما تمر به حاليا
    وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته

     
  4. نور

    نوفمبر 23, 2011 at 1:33 م

    دعوني إذا أتكلم أخي الكريم شادي..فأنا التي لها الحصة الأكبر من عبد الرحمن ..لأنه أخي ..إذا كان بالنسبة لك كالرافعي فهو بالنسبة لي أكثر من ذلك ..بكل صراحة هو قدوتي بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ..هو من علمني أشياء كثيرة ..هو من وقف إلى جانبي في حياتي كثيرا..
    أحب أن أقلده ..سفره كان من أصعب الأمور التي واجهتني ..و لكني سأتحمل فراقك يا أخي لتبني نفسك و تحقق طموحاتك فسعادتك هي سعادتي و لأني أعرف أن ما تفعله لأجله هو و لأجل مرضاته تعالى ..نحسبك كذلك…مذ كنا صغارا كنت أشعر بأنك غير عادي..و لكني الآن سأبقى بانتظارك لتعلمني من جديد..و سأبقى بانتظار ما ستخدم به أمة نبيك محمد صلى الله عليه و سلم..
    كلامي لا ينتهي ..و لكني أدعو الله تعالى بكل صدق الذي قدّر بعدك عنا يا أخي في الدنيا و لست أدري إلى متى ..أدعوه أن يجمعنا بك في جنة الخلد مع حبيبنا محمد صلى الله عليه و سلم ..

    الشكر موصول لصاحب المدونة الذي احتوى بها هذه الكلمات ..بارك الله بكم

     
    • shadispire

      نوفمبر 24, 2011 at 12:56 م

      أعاده الله لكم سالماً و حاملاً كل خير لهذه الأمة. و لك الحق في أن تفتخري به فهو حقاً “غير عادي” إنما مزيج من عدة فضائل يقضي بعضنا دهراً و هو يبحث عنها، فهنيئاً لكم به.
      و لأن يشارك معنا في هذه الفكرة لهو إضافة لا تقدر بثمن للفكرة و للمدونة و فخر لي أعجز عن وصفه، لذلك فهو أحق بالشكر مني، شكراً لك أخي و صديقي الغالي عبد الرحمن.

       
  5. معتصم بالله

    سبتمبر 29, 2012 at 10:35 م

    الحمد لله تملئ السماوات والأرض سبحانه ما أكرمه يرضى بهاتين الكلمتين

     

اترك رداً على معتصم بالله إلغاء الرد